بعد سنوات من الصراع.. تيمور الشرقية تتحول إلى «صانعة سلام»
بعد سنوات من الصراع.. تيمور الشرقية تتحول إلى «صانعة سلام»
شهدت تيمور الشرقية مسارًا حافلًا بالتحديات قبل أن تصبح اليوم مثالًا يُحتذى في دعم عمليات حفظ السلام الدولية، فمنذ استقلالها، لعبت الأمم المتحدة دورًا محوريًا في ضمان الاستقرار، وبعد مرور 24 عامًا، تحولت البلاد من مستضيفة لقوات حفظ السلام إلى مساهم فاعل في دعم بعثاتها حول العالم.
ووفقا لتقرير نشره موقع أخبار الأمم المتحدة، اليوم السبت، واجهت تيمور الشرقية صعوبات كبيرة قبل أن تصل إلى هذا الإنجاز، ففي عام 1976، وبعد وقت قصير من استقلال إندونيسيا، اجتاحت القوات الإندونيسية الجزء الشرقي من جزيرة تيمور، التي كانت حينها مستعمرة برتغالية سابقة.
شهدت البلاد فترة احتلال قاسية تخللتها عمليات قمع عنيفة، وظل الشعب التيموري يعاني حتى عام 1999، عندما حصل على دعم دولي لحقه في تقرير المصير.
وفي سبتمبر من ذلك العام، نظمت بعثة الأمم المتحدة في تيمور الشرقية استفتاءً شعبيًا، صوّت خلاله 78.5% من الناخبين لصالح الاستقلال، لكن النتيجة لم تمر دون عواقب، إذ تعرض السكان لهجمات وحشية من ميليشيات موالية لإندونيسيا، مما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا.
مآسي العنف وبطولات الصمود
عاشت ناتيرسيا مارتينز، التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها آنذاك، هذه الأحداث عن كثب أثناء عملها ضمن فريق الأمم المتحدة المكلف بمراقبة الاستفتاء.
تعرض مركز الاقتراع الذي كانت تعمل فيه لهجوم شرس من مقاتلين معارضين للاستقلال، ما أسفر عن مقتل اثنين من زملائها، وفي موجة العنف التي اجتاحت البلاد، لقي 14 موظفًا أمميًا مصرعهم، كان من بينهم قريبتها آنا ليموس.
وساهم تدخل القوات الدولية التي أقرها مجلس الأمن في إنهاء الأزمة، وهو ما دفع مارتينز لاحقًا للانضمام إلى الشرطة، فقد أرادت المساهمة في تحقيق الأمن لسكان تيمور الشرقية، ولا سيما النساء والأطفال، مؤكدة أن وجود بعثات حفظ السلام الأممية منح السكان إحساسًا بالأمان بعد الفوضى التي أعقبت الاستفتاء.
أزمات داخلية واختبار الاستقرار
مع مرور السنوات، استقرت تيمور الشرقية نسبيًا، إلا أن أزمة سياسية عام 2006 أدت إلى اندلاع اشتباكات عنيفة تسببت في نزوح أكثر من 150 ألف شخص، لجأ الكثير منهم إلى أماكن آمنة، مثل دير الأمهات الكانوسيات في العاصمة ديلي، حيث استقبلت الراهبات آلاف النازحين.
تتذكر الأخت غيلهيرمينا، التي كانت مسؤولة عن الدير حينها، كيف كانت أصوات إطلاق النار تعم الأرجاء، مما دفعها إلى فتح أبواب الدير لاستقبال الفارين، ورغم اعتقادها بأن الأزمة ستكون قصيرة، استمرت المعاناة هناك لنحو عامين وتسعة أشهر.
قدمت الأمم المتحدة حماية أمنية للموقع، وساعدت وكالاتها في توفير الإمدادات الغذائية والطبية والمياه الصالحة للشرب للنازحين.
نجاح أممي في صناعة السلام
استضافت تيمور الشرقية على مدار سنوات استقلالها 6 بعثات تابعة للأمم المتحدة، منها 4 بعثات لحفظ السلام واثنتان سياسيّتان، حتى عام 2012 ووفقًا للرائد السابق في قوات حفظ السلام، لويس بينتو، فإن دور الأمم المتحدة في تيمور الشرقية يعد من أنجح تجارب حفظ السلام في تاريخ المنظمة، حيث ساعد في بناء أسس الدولة الوليدة.
ومع مرور الوقت، لم تعد تيمور الشرقية مجرد مستفيدة من عمليات حفظ السلام، بل أصبحت مشاركًا نشطًا فيها، إذ أرسلت جنودها للمساهمة في بعثات حفظ السلام في كوسوفو ولبنان، كما بدأت منذ عام 2011 في إرسال مراقبين عسكريين إلى جنوب السودان.
عبّر الرائد زيكيتو زيمينيس، أحد المراقبين العسكريين التيموريين، عن فخره بالمشاركة في هذه المهام، مشيرًا إلى أن التجربة التي خاضتها بلاده في تحقيق السلام كانت دافعًا قويًا له للانضمام إلى قوات الأمم المتحدة.
بناء القدرات الوطنية لمهام السلام
أسست تيمور الشرقية مركزًا لتدريب أفرادها على عمليات حفظ السلام عام 2018، بهدف إعداد كوادر عسكرية للمشاركة في مهام الأمم المتحدة، كما تخطط لإرسال المزيد من قوات حفظ السلام، مع التركيز على مجالات مثل الإغاثة وحماية المدنيين، بالإضافة إلى إرسال فرق هندسية للمساعدة في بناء البنية التحتية في الدول التي تشهد نزاعات.
لم يكن الطريق إلى السلام في تيمور الشرقية سهلًا، لكنه أصبح ممكنًا بفضل خيارات قادتها في المصالحة الوطنية، وتعزيز العلاقات مع إندونيسيا، والدعم الدولي المستمر، واليوم، تقدم تيمور الشرقية نموذجًا يُثبت أن دول ما بعد النزاعات قادرة على تحقيق الاستقرار والمساهمة في بناء السلام العالمي.